الاثنين، 11 يناير 2010

ثمن التوريث




أثارت زيارة جمال مبارك إلى واشنطن شبه السرية وشبه المعلنة، والتي شملت لقاءات مع دبلوماسيين في وزارة الخارجية، وخبراء في مراكز بحوث، لغطًا كبيرًا، لأن مَنْ قام بها يتبوأ موقعًا قياديًا في الحزب الحاكم، وليس وزيرًا أو مسئولاً في الدولة، ورغم ذلك أعطى لنفسه الحق في أن يقوم بمهام لا يستطيع سياسي آخر أن يقوم بها وإلا اتهم بالخيانة والعمالة لأمريكا، في تناقض صارخ بين ما هو مسموح به لسياسي لأنه نجل الرئيس وآخر من باقي الناس.

وإذا كان الخطاب الرسمي يرى أن الدولة والمسئولين الحكوميين هم وحدهم الذين لهم حق التواصل مع الدول والحكومات الغربية والأمريكية، وأن قيام غيرهم بهذا الدور يعتبر نوعًا من الاستقواء بالخارج على حساب الوطن، فكيف سيتعامل هذا الخطاب مع زيارات جمال مبارك المتكررة إلى واشنطن، وكيف يمكن أن نعتبر أن تسويق مشروع التوريث في أمريكا تحت مسمى عرض "إنجازات" الإصلاح هو قضية وطنية يعطى فيها الحق لشخص، ويحرم منها كل نظرائه من السياسيين المصريين.

لقد اعتبرت الحكومة أن قيام جمعية أو منظمة بعرض انتهاكات حقوق الإنسان أمام نظرائها في أمريكا "خيانة للوطن"، في حين أن زيارات جمال مبارك المتكررة لأمريكا هي كلها من أجل صالح الوطن، وبدا الشعب وكأنه قد خرج من تعريف هذا الوطن، الذي لم يعد التنكيل به يثير مشكلة أو حتى تعاطفًا إنسانيًا من قبل الحكم، وصار عقاب الضحية على شكواها أكبر بكثير من عقاب الجلاد على جريمته.

والمشكلة أنه لأول مرة منذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة في مصر منذ أكثر من قرنين، يشعر الناس بأنهم لا يواجهون نظامًا يبطش بهم أو دولة تقسو عليهم، إنما مجموعة ضيقة جدًا من أهل الحكم تنكل بهم كل يوم، وتهين كرامتهم، وتستغل استكانتهم بعد أن تركتهم ضحايا خطط التجهيل التي أصابت وعيهم، كل ذلك من أجل إنجاح مشروع التوريث الذي يستلزم وجود شعب مغيب، ودولة نائمة، ومؤسسات مترهلة، ونخبة معدومة الكفاءة والأخلاق.

فالمؤكد أن المصريين لا يواجهون، كما جرى في فترة سابقة، نظامًا تسلطيًا، إنما "شلة توريث" استبعدت كل القوى والأفكار والرموز الإصلاحية الموجودة داخل النظام وخارجه، في مشهد تَرَحَّم فيه الكثيرون على أيام الدولة التسلطية بعد أن شهدوا عصر العزب والمماليك الخاصة، وتذكروا بالخير نظمًا تسلطية بعد أن رأوا مرحلة الفوضى والعشوائية واللانظام.

والمؤكد أن الشعب المصري سيدفع ثمنًا باهظًا نتيجة تخاذله في إجهاض مشروع التوريث، الذي أصبح يمثل الخطر الأكبر على مستقبل هذا البلد، وسيعنى في حال نجاحه استكمال الفشل الذي عرفناه على مدار 30 عامًا، وانتقاله من فشل سياسي واقتصادي إلى فشل معنوي وأخلاقي سينتهي معه مبرر تأسيس النظام الجمهوري عبر انقلاب عسكري، وقيام الشعب المصري بتضحيات كبرى من أجل استقلاله وكرامته، وتصبح التقاليد المعروفة في النظم الملكية أكثر احترامًا من توريث الجمهوريات، خاصة إذا كان هذا التوريث لم يجلب تقدمًا واحدًا ولو على سبيل السهو في مجال الإصلاح السياسي أو محاربة الفقر والتهميش والفساد.

فلم يحاول ولو خطأ أن يضع بين الـ34 مادة التي تم تعديلها من الدستور، مادة واحدة يمكن وصفها بالإصلاحية، وحتى تغيير المادة 77 وتحديد مدة حكم رئيس الجمهورية بمدتين، كما طالبت القوى الإصلاحية، وكثير منها كان داخل الحزب الوطني، لم يلتفت له أحد من أركان الحكم، وصار مكتوبًا على مصر ألا تعرف لقب الرئيس السابق، لأنها لم تجد من داخل النظام الحاكم من يجرؤ على القول علنًا (وليس سرًا) إن الأزمة الحقيقية التي تعاني منها مصر تعود إلى حالة الجمود السياسي نتيجة بقاء رئيس الجمهورية حاكما لمدة 28 عامًا، وفى حال إذا كان الرئيس مبارك قد غادر السلطة عام 1993 أي بعد أن أنهى مدتين في الحكم، لكان يمكن اعتباره واحدًا من أفضل الرؤساء الذين عرفتهم مصر في تاريخها الحديث.

واللافت أن فشل الحكم في السياسة، لم يعوضه نجاح في أى مجال آخر، فلم نجد جامعة وطنية يتيمة ناجحة، أو مؤسسة عامة واحدة تعمل وفق معايير الحد الأدنى من الكفاءة، أو صحيفة واحدة مثل "الشرق الأوسط" أو "الحياة" أو "الأهرام" منذ أربعين عامًا، أو حتى شارعًا واحدًا به رصيف يمشي عليه الناس، وإشارة مرور تعمل كما كان عليه الحال في كل العصور السابقة.

ويكفى فقط أن نشاهد صور الشوارع وشكل الناس ومظهر المباني والعمران قبل 30 عامًا ونقارنها بحالتها البائسة حاليًا لنعرف حجم التدهور الذي أصابنا، رغم أنه كان من المفروض أن نقفز خطوات إلى الأمام لا أن نركض بسلاسة إلى الخلف.

لقد أصبحت أعداد القتلى في ظل السلام أكبر من أعدادهم في فترات الحروب، لأننا لم نعرف إلا في هذا العهد استفحال مشكلة الفساد وسوء الإدارة، بعد أن عجز النظام عن وضع معايير محترمة لاختيار قياداته العليا فارتاح إلى الموظفين المطيعين، ويا حبذا لو كانوا مثل هؤلاء الذين تركوا ضحايا العبَّارة يموتون في عرض البحر لساعات، أو عباقرة النقل والمواصلات الذين تجلت قدرتهم في تكرار حوادث الطرق والقطارات نتيجة الإهمال والفساد وسوء الإدارة.

والحقيقة أن فوضى الشارع والحياة العامة انتقلت إلى السياسة، وأصبحنا نشهد حروبًا وحملات لتلويث السمعة والشرف وهدم أى قيمة أو معنى لرموز مصر ونخبتها، ومساعدة كثير منهم على الفساد والإفساد، حتى لا يكون أمامنا إلا وريث واحد لحكم البلاد.

لقد اعتدنا في عصورنا الجمهورية السابقة أن تتخاصم الدولة السياسية مع المعارضين السياسيين، فَتَعَرَّضَ كل مَنْ انتمى لتنظيم شيوعي أو إسلامي في عصر عبد الناصر لاعتقال، وكنا نفهم (ولا نقول نوافق) أن يقوم نظام ثوري واشتراكي مثل نظام عبد الناصر باعتقال صحفي يميني له علاقات بأمريكا كالراحل مصطفى أمين، ولكننا لم نفهم قيام النظام الحالي حليف أمريكا الأول في العالم العربي، بحملات تخوين قاسية ضد د. سعد الدين إبراهيم لأن له علاقات طيبة مثل النظام المصري بواشنطن، وعوقب بشدة لمجرد أنه استخدم القنوات نفسها التي يستخدمها جمال مبارك لإيصال رؤيته للأمريكيين.

وأصبح كل رمز سياسي مؤثر عدوًا صريحًا لشلة التوريث، وصار كل رمز علمي أو قيمة فكرية، عدوًا محتملاً حتى لو كان مثل أحمد زويل أو محمد البرادعي، فالمطلوب هو الحفاظ على مصر جرداء وفى تصحر مستمر حتى ينجح مشروع التوريث.

ولأن هذا المشروع يجرى في الظلام وليس له أدنى علاقة بالناس، فقد مارس أكبر عملية استبعاد وتهميش في تاريخ مصر الحديث للمواطنين وللنخبة ولدور مؤسسات الدولة، ولم يحاول أن ينقلنا خطوة إلى الأمام في أي جانب، واختطف الدولة لحساب شلة عطلت قدراتها وأهدرت كفاءتها وهيبتها وصار رموزها محل هجوم بالحق والباطل من أجل اختزال البديل في التوريث.

فهل سندفع ثمن هذا المشروع مرتين: مرة بما فعله فينا ومرة بوصوله إلى السلطة، وحينها سنكون فقدنا كل شيء، أي الحاضر والمستقبل وقبلهما التاريخ، الذي كان في يوم ما به كثير من الجوانب المشرقة؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق