الاثنين، 30 نوفمبر 2009

زواج عتريس من فؤادة باطل!!


د. حلمي القاعود

يحاول النظام البوليسي الفاشي أن يقنع الناس داخل مصر وخارجها، أنه نظامٌ متسامح، يسعى إلى التطور والتقدم، وأنه يحقق العدل والكرامة لأبنائه جميعًا دون تمييزٍ أو تفرقة، وبين الحين والحين يطرح قضية تشغل الناس، ويُثير الجدل حولها عن طريق أبواقه المأجورة وأقلامه غير المتوضئة، وكلها لا تستحي من التزييف والنفاق وإلباس الحق بالباطل.

في العام قبل الماضي طرح النظام قضية تغيير المادة 76 من الدستور التي تجعل منصب رئيس الجمهورية بالتنافس بدلاً من الاستفتاء، وكان قبل طرحه للقضية بأيام قلائل يؤكد استحالة أي تغيير في الدستور؛ لأنَّ التغييرَ معناه إثارة القلاقل وتعريض البلاد للخطر، وفجأةً وفي ظل عوامل دولية معينة، كانت المفاجأة من إحدى مدارس المنوفية، حيث أطلق الرئيس مبارك قنبلة المادة 76، وفرح الناس، أو الطيبون الذين لا يعرفون طبيعة النظام جيدًا، بهذه المفاجأة، وقالوا إنها بداية لتغييرٍ حقيقي يجعل من حقِّ أي مواطن شريف نظيف، تتوفر فيه الكفاءة وفقًا لما يراه الناس أن يتولى الحكم.

ولكن "أسطوات التفصيل القانوني" جعلوا من المادة 76، أطول مادة في أي دستور من دساتير العالم؛ حيث جاءت في ثلاث صفحات من القطع الكبير (حوالي 1500 كلمة)، تضع معايير ومحاذير؛ تجعل من المستحيل على أي شخص، غير شخص الحاكم أو مَن يريده هو، يصعد إلى سدة الحكم.. وكان منظر رؤساء الأحزاب الحكومية الذين تقدموا بوصفهم "المحلل" من أعجب المناظر في التاريخ؛ حيث كان كل همهم باستثناء اثنين أو ثلاثة الحصول على النصف مليون جنيه التي خصصها النظام لكل مرشح وصيف، بل إنَّ بعض المرشحين لم يخافت وهو يعلن أنه يرشح نفسه ضد الرئيس مبارك، وسوف يعطيه صوته!

هذا المشهد التاريخي يؤكد عبثية ما يعلنه النظام من تغييرات وتعديلات، فقد أعلنها الرئيس صريحةً داوية؛ إنه سيحكم حتى النفس الأخير من حياته- أطال الله عمره، ومتعه بالصحة والعافية!

وبعد الانتخابات- أو الاستفتاء بمعنى أصح- اكتشف الناسُ الحقيقةَ المرَّة، فقد تمَّت تصفية الحسابات أولاً مع مَن دخلوا المنافسة (غير المتكافئة) على أساسِ أنها حقيقية وليست صورية، فتحطَّم حزب الغد، ودخل رئيسه السجن بتهمةٍ غليظةٍ قضت على مستقبله السياسي والإنساني، وتحطَّم حزب الوفد العريق، وتبادل الفرقاء الرصاص في ساحته، ودخل رئيسه- رجل القانون- السجن، وتشوهت صورته وهو في السبعين من عمره، وذهب إلى النسيان بعد خروجه من محبسه! واكتشف الناس ثانيًا أنَّ التغييرَ كان لعبةً للتسلية ليس أكثر تفيد مَن قام بها، وليس مَن يشارك فيها- أي الشعب!

واليوم يقدمون لنا تعديلات على الدستور القائم، تحصّن "بوليسية" النظام وفاشيته، وتجعل قانون مكافحة الإرهاب بديلاً لقانون الطوارئ الذي استمرَّ طوال حكم الرئيس مبارك (ربع قرن)، وكان قائمًا قبله منذ انقلاب يولية 1952م، باستثناء سنوات قلائل تعد على أصابع اليد الواحدة.

ولا شك أن موافقة مجلس الشورى بالإجماع- حتى كتابة هذه السطور- على هذه التعديلات، ومن بعده- كما يتوقع- مجلس الشعب (باستثناء المستقلين)، سيجعل هذه التعديلات أمرًا واقعًا، يحقق غايةً واحدةً هي الزواج الباطل بين السلطة والثروة، بين الاستبداد والقهر، بين التزييف والتخلف، بين الخضوع للإرادة الأجنبية وفقدان الاستقلال.. إنه زواج عتريس من فؤادة، وهو زواج باطل، كما أعلن الشيخ إبراهيم في رواية ثروت أباظة "شيء من الخوف"؛ لأنه يقوم على الإكراه والقسر والقهر، وليس الرضا والتفاهم والتوافق.

ولا شك أنَّ ثقافةَ الخوف لدى شعبنا التعيس، قد أثمرت وجود هذا الزواج الباطل، وجعلته يستمر أكثر من نصف قرن شهدنا فيها أكبر هزيمة عسكرية عاشها المصريون على مدى التاريخ، وما زلنا ندفع ثمن هذه الهزيمة حتى اليوم، وأقرب الأمثلة على ما ندفعه هو استئساد دول أعالي النيل وتهديدها لنا في الحصول على حصةِ المياه المقررة وفقًا للاتفاقيات الدولية، وها هي إثيوبيا تعلن عن نفسها قوة إقليمية عظمى بغزو الصومال واحتلاله، وها هي كينيا تنسحب من محادثات دول حوض النيل؛ لأنها ترفض أن تحصل مصر على نسبتها المقررة في المياه، وتعلن عن إقامة سدود ومشروعات على بحيرة فيكتوريا، ليشرب المصريون بعدها من البحر!!وكل ذلك بفضل الزواج الباطل، الذي حوَّل المصري إلى مجرَّد عبدٍ عليه أن يسمع ويُطيع، وإلا انتهك عرضه في السجون والمعتقلات والأقسام!

إنَّ جمهوريات الموز التي تعيش في ظروف أسوأ من ظروفنا، وتسكن في ضواحي الشيطان الأكبر أو في فنائه الخلفي وفقًا للتسمية الشائعة، صنعت الحرية لشعوبها وضحَّت من أجلها، وانتخبت حكامًا معادين للشيطان الأكبر.. ولست أدعو إلى محاربة الشيطان الأكبر أو معاداته، ولكن أدعو إلى التعبير عن إرادة الشعب من خلال نظام حرٍّ حقيقي، يستطيع أن يواجه الدنيا كلها بهذه الإرادة.

لقد كان أبشع ما ارتبط بهذه التعديلات، هو إهانة "الإسلام" وازدرائه، واتهامه بما ليس فيه، وتجييش الكُتَّاب المرتزقة، وماسحي "بيادة" لاظوغلي، واليسار المتأمرك، للإلحاحِ على ما يُسمَّى بالدولة الدينية، والأحزاب الدينية، والمواطنة!

ويبدو أنَّ البعضَ ليس لديه معرفة جيدة بالإسلام وتاريخه، فراح عن قصدٍ أو غير قصدٍ يتحدث عن الدولة الدينية التي تريد إقامتها هذه الجماعة أو تلك، والأحزاب التي تنشئها هذه الفرقة أو تلك، ثم وهو الأنكى اتهام الإسلام بالعنصرية والتمييز.

وواضح أنَّ القومَ لا يستطيعون توجيه هذا الكلام إلى الدولة الدينية حقًّا، والأحزاب الدينية التي تشكل حكومتها، والعنصرية أو التمييز الذي تمارسه على أرض الواقع فعلاً، ومن منطلقٍ ديني علني لا يمثل سرًّا.. أعني دولة الغزاة النازيين اليهود في فلسطين المحتلة، التي تجعل غير اليهودي درجة ثانية، والعربي درجة عاشرة، وقيمته إذا قُتل ثلاثة (أجورات) = ثلاثة مليمات، كما حكمت بذلك المحكمة العليا اليهودية في القدس المحتلة ذات يوم!

لقد أقام الإسلام أول دولة مدنية على ظهرِ الأرض، وليس فيه وسيط بين العبد وربه، ولا يملك أحدٌ أن يمنح أحدًا صكًا بالغفران أو الحرمان.. والأحزاب والجماعات التي تخلقت بعد عهد الراشدين كانت كلها سياسية، ولكن نظام المجتمع على مدى أربعة عشر قرنًا، ظلَّ يحتكم إلى الإسلام في عباداته ومعاملاته، في ميلاده وموته، في بيعه وشرائه، في حروبه وسلامه، في صحوه ونومه.. وسيظل بإذن الله نظام المجتمع إسلاميًّا إلى يوم الدين!

ولو كلَّف القومُ أنفسهم، وطالعوا ما عرف بصحيفة "المدينة" التي وقعها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقبائل المدينة واليهود، لعرفوا أن الإسلامَ هو أول مَن أرسى حقوق المواطنة التي لا تجدها في أعرق ديمقراطيات الغرب الآن.

إنَّ الذين يهينون الإسلام بهذا الأسلوب الرخيص، لا يستطيعون أن يواجهوا حزبًا دينيًّا حقيقيًّا قائمًا على أرض الواقع تقوده الكنيسة المصرية، ويأتمر بأمرها، ويتحرك بإشارةٍ منها في المناسبات المختلفة، ويرى نفسه فوق الأكثرية السياسية والدينية، شاءت أم أبت!

إننا نريد نظامًا حرًّا يحفظ كرامة الإنسان، ويُعبِّر عن إرادة جموع المواطنين على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم وعقائدهم.. ويخضع فيه الجميع للقانون الذي يصنعه نواب الأمة الحقيقيون.

أما هذا الوضع البوليسي الفاشي القائم وتعديلاته المطروحة.. فلن يُقدِّم جديدًا.
إنَّ زواجَ عتريس من فؤادة باطل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق